فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله تعالى: {خذ العفو}.
العفو هنا الفضل وما جاء بلا كلفة والمعنى: اقبل الميسور من أخلاق الناس ولا تستقصِ عليهم فيستقصوا عليك فتتولد منه العداوة والبغضاء.
وقال مجاهد: يعني خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وذلك مثل قبول الاعتذار منهم وترك البحث عن الأشياء والعفو التساهل في كل شيء خ عن عبد الله بن الزبير قال: ما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف إلا في أخلاق الناس وفي رواية قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس وكذا في جامع الأصول وفي الجمع بين الصحيحين للحميدي قال أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أقوال الناس أو كما قال: وقال ابن عباس يعني خذ ما عفا لك من أموالهم فما أتوك به من شيء فخذه وكان هذا قبل أن تتنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه وقال السدي خذ العفو أي الفضل من المال نسختها آية الزكاة، وقال الضحاك: خذ ما عفا من أموالهم وهذا قبل أن تفرض الصدقة المفروضة {وأمر بالعرف} يعني وأمر بكل ما أمرك الله به وهو ما عرفته بالوحي من الله وكل ما يعرفه الشارع وقال عطاء وأمر بقوله لا إله إلا الله: {وأعرض عن الجاهلين} أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصفح عن الجاهلين وهذا قبل ان يؤمر بقتال الكفار فلما أمر بقتالهم صار الأمر بالإعراض عنهم منسوخًا بآية القتال: قال بعضهم: أول هذه الآية وآخرها منسوخ، ووسطها محكم يريد ينسخ أولها أخذ الفضل من الأموال فنسخ بفرض الزكاة والأمر بالمعروف محكم والإعراض عن الجاهلين منسوخ بآية القتال روي أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما هذا»؟ قال لا أدري حتى أسأل.
ثم رجع فقال إن ربك يأمرك أن تصل من قطعت وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ذكره البغوي بغير سند.
وقال جعفر الصادق: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه.
عن عائشة قالت «لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا ولا سخابًا في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح» أخرجه الترمذي وروى البغوي بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال». اهـ.

.قال أبو حيان:

{خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}.
هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمّ جميع أمته وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق، وقال عبد الله بن الزبير ومجاهد وعروة والجمهور: أي اقبل من الناس في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم بما أتى عفوًا دون تكلّف ولا تخرّج والعفو ضد الجهد أي لا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا وقد أمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «يسروا ولا تعسروا» وقال حاتم:
خذي العفو مني تستديمي مودّتي ** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

وقال الآخر:
إذا ما بلغة جاءتك عفوا ** فخذها فالغنى مرعى وشرب

إذا اتفق القليل وفيه سلم ** فلا ترد الكثير وفيه حرب

وقال الشعبي: سأل الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن قوله تعالى: {خذ العفو}، فأخبره عن الله تعالى أنه يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك، وقال ابن عباس والضحاك والسدّي: هي في الأموال قبل فرض الزكاة أمر أن يأخذ ما سهل من أموال الناس أي ما فضل وزاد ثم فرضت الزكاة فنسخت هذه، وتؤخذ طوعًا وكرهًا، وقال مكي عن مجاهد إن العفو هو الزكاة المفروضة، وقال ابن زيد: الآية جميعها في مداراة الكفار وعدم مؤاخذتهم ثم نسخ ذلك بالقتال انتهى، والذي يظهر القول الأوّل من أنه أمر بمكارم الأخلاق وأن ذلك حكم مستمر في الناس ليس بمنسوخ ويدلّ عليه حديث الحر بن قيس حين أدخل عيينة بن حصن على عمر فكلم عمر كلامًا فيه غلظة فأراد عمر أن يهمّ به فتلا الحر هذه الآية على عمر فقرّرها ووقف عندها.
والعرف المعروف والجميل من الأفعال والأقوال، وقرأ عيسى بن عمر {بالعرف} بضم الراء والأمر بالإعراض عن الجاهلين حضّ على التخلق بالحلم والتنزه عن منازعة السفهاء وعلى الإغضاء عما يسوء كقول من قال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، وقول الآخران كان ابن عمتك وكالذي جذب رداءه حتى جزّ في عنقه وقال: أعطني من مال الله، وخرج البزار في مسنده من حديث جابر بن سليم ما وصاه به الرسول صلى الله عليه وسلم: «اتقِ الله ولا تحقرن من المعروف شيئًا وأن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء». اهـ.

.قال أبو السعود:

{خُذِ العفو}.
بعد ما عُدّ من أباطيلِ المشركين وقبائحِهم ما لا يطاق تحمُّله أُمر عليه الصلاة والسلام بمجامع مكارمِ الأخلاق التي من جملتها الإغضاءُ عنهم، أي خذْ ما عفا لك من أفعال الناسِ وتسهل ولا تكلِّفْهم ما يشُقُّ عليهم، من العفو الذي هو ضدُّ الجَهدِ، أو خذ العفوَ من المذنبين أو الفضلَ من صدقاتهم وذلك قبل وجوبِ الزكاة {وَأْمُرْ بالعرف} بالجميل المستحسَن من الأفعال فإنها قريبةٌ من قَبول الناس من غير نكير {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} من غير مماراةٍ ولا مكافأة، قيل: «لما نزلت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريلَ عليه السلام فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال: يا محمدُ إن ربك أمرك أن تصِل مَنْ قطعك وتعطيَ من حَرَمك وتعفُوَ عمّن ظلمك» وعن جعفرٍ الصادقِ: أمر الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وروي أنه لما نزلت الآيةُ الكريمةُ قال عليه الصلاة والسلام: «كيف يا ربّ والغضبُ متحقق؟» فنزل قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ}. اهـ.

.قال الألوسي:

{خذ العفو} أي عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس وإلى هذا ذهب ابن عمر وابن الزبير وعائشة ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والأخذ مجاز عن القبول والرضا أي ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا ومن ذلك قوله:
خذي العفو مني تستديمي

وجوز أن يراد بالعفو ظاهره أي خذ العفو عن المذنبين والمراد اعف عنهم وفيه إستعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر محسوس يطلب فيؤخذ وإلى هذا ذهب جمع من السلف ويشهد له ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: لما أنزل الله تعالى خذ العفو إلى آخره قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما هذا يا جبريل قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك.
وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك ولعل زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى وتكلف القطب لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء وعن ابن عباس المراد بالعفو ما عفى من أموال الناس أي خذ أي شيء أتوك به وكان هذا قبل فرض الزكاة وقيل: العفو ما فضل عن النفقة من المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال: نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة وأمر بالمعروف أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير وفي لباب التأويل أن المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي وقال عطاء: المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع وأعرض عن الجاهلين أي ولا تكافيء السفهاء بمثل سفههم ولا تمترهم واحلم عليهم وأغض بما يسوءك منهم وعن السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية وزبدتها كما قالوا تحري حسن المعاشرة مع الناس وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن مساويهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته عامة ومادته خاصة وقد علم كل أناس مشربهم ولا يخفى حسن موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق حمله وإذ قيل: بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير أولئك المشركين حيث أن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم الإرعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية الإلتئام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}.
أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين وعظتهم وإقامة الحجة عليهم وبعثتهم على التأمل والنظر في دلائل وحدانية الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهدي دينه وكتابه وفضح ضلال المشركين وفساد معتقدهم والتشويه بشركائهم، وقد تخلل ذلك كلّه التسجيل بمكابرتهم، والتعجيبُ منهم كيف يركبون رؤوسهم، وكيف يَنأون بجانبهم، وكيف يصمون أسماعهم، ويغْمضون أبصارهم عما دعوا إلى سماعه وإلى النظر فيه، ونُظرت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم، وكفروا نعمة الله فحل بهم ما حل من أصناف العذاب، وأنذر هؤلاء بأن يحل بهم ما حل بأولئك، ثم أعلن باليأس من ارعوائهم، وبانتظار ما سيحل بهم من العذاب بأيدي المؤمنين، وبتثبيت الرسول والمؤمنين وتبشيرهم والثناء على ما هم عليه من الهدى، فكان من ذلك كله عبرة للمتبصرين، ومسلاة للنبيء وللمسلمين، وتنويه بفضلهم وإذ قد كان من شأن ذلك أن يثير في أنفس المسلمين كراهية أهل الشرك وتحفزُهم للانتقام منهم ومجافاتهم والإعراض عن دعائِهم إلى الخير، لا جرم شُرع في استيناف غرض جديد، يكون ختامًا لهذا الخوض البديع، وهو غَرض أمْرِ الرسول والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم، وبأن يَسعوهم من عفوهم والدَأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله: {خُذ العفو وأمر بالعرف} الآيات.
والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لإضراره، كما يقال: أخذت العدو من تلابيبه، ولذلك يقال في الأسير أخيذ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازًا فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها، فيُشبّه ذلك التلبسُ واختيارهُ على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء، فمعنى {خذ العفو}: عَامِل به واجْعله وصفًا ولا تتلبس بضده.